وقفات مع فقه النوازل (6)
الدكتور / مبارك المصري النظيف
أستاذ الفقه أصوله كلية الشريعة
جامعة القرآن الكريم وتأصيل العلوم
Dr.Mubarkelmasrii@gmail.com الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على أفضل المخلوقات ، الحبيب المصطفى محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد : فيا أحبتي القراء أهديكم سلاما لو رفع إلى السماء لكان قمرا منيرا ونزل إلى الأرض لكساها سندسا وحريرا ولو مزج بماء البحر الملح لصيره عذبا فراتا سلسبيلا . ولقاء جديد نتناول فيه النوازل المتعلقة بشروط الصلاة. فنقول وبالله التوفيق:
أولا ً: ما يتعلق بالوقت :المسألة الأولى : هل يقوم مقام العلامات الكونية الأفقية شيء كالحساب أو لا ؟
المعلوم أن من شروط صحة الصلاة : دخول الوقت باتفاق العلماء ، ودليل ذلك:
قول الله: ﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾ الإسراء 78. وأيضاً قوله: ﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ النساء 103 .
ومن يسر الشريعة أنها ربطت أوقات الصلاة بعلامات كونية أفقية يشاهدها الجميع لا تخفى عليهم ، يدركها العالم والجاهل والحضري والبدوي .
فنجد أن ( صلاة الفجر ) : يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس.
( صلاة الظهر ): يدخل وقتها بزوال الشمس ، ويستمر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى ظل أو فيء الزوال . ووقت ( صلاة العصر ): يبدأ من خروج وقت الظهر يستمر إلى اصفرار الشمس ، ثم وقت ضرورة إلى غروب الشمس .ووقت ( صلاة المغرب ): من غروب الشمس إلى مغيب الشفق . ووقت (صلاة العشاء ) : من مغيب الشفق إلى انتصاف الليل .
فهل ينوب مناب هذه العلامات الكونية الأفقية شيء كالحساب أو لا ؟
نجد الناس اليوم بسبب كثرة الأنوار واتساع العمران وكذلك أيضاً وجود البنايات الشاهقة في المدن الكبيرة وحتى في المدن الصغيرة..إلخ ,قد أعرضوا عن هذه العلامات الكونية الأفقية واعتمدوا على ما يسمى بالحساب والتقاويم والساعات وكذلك ما يوجد الآن من أجهزة الكومبيوتر التي تحدد وقت الصلاة في أي مدينة من مدن العالم ليس لمجرد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين بل تحدده لسنوات .
فما مدى صحة اعتماد المسلم في صلاته على مثل هذه التقاويم وكذلك أيضاً هذه الساعات والأجهزة كأجهزة الكومبيوتر ؟
الإمام القرافي المالكي رحمه الله تعالى ذكر فرقاً بين رمضان وبين الصلاة.
فقال بأن ـ في رمضان ـ الشارع تَعبَّدنا بواحد من أمرين فقط ولم ينظر إلى الحساب :
الأمر الأول : رؤية الهلال ,وهي علامة كونية أفقية تدرك للجميع .
الأمر الثاني : إكمال العدة , فإذا لم نتمكن من رؤية الهلال ، فإننا نقوم بإكمال العدة ثلاثين يوماً. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإذا غم عليكم فأكملوا العدة " ، وفي صحيح البخاري : " فعدوا شعبان ثلاثين".
وأما الحساب في رمضان فإن الشارع أبطله ولم يعتبره ،لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا أو هكذا وهكذا وهكذا " أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر ، يعني عقد إصبعه في الثالثة يعني الشهر إما أن يكون ثلاثين يوماً وإما أن يكون تسعة وعشرين يوماً .
أما الحساب في أوقات الصلاة فقد اعتبره الشارع ، ودليل ذلك :
حديث الدجال ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر الصحابة عن مكث الدجال وقال " يمكث أربعين يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة " فقالوا يا رسول الله: هذا اليوم الذي كسنة أي كفينا فيه صلاة يوم قال : لا ، اقدروا لـه قدره" .
كيف نقدر لـه قدر ، ذكر النووي وغيره من أهل العلم كيف يقدر لهذا اليوم الذي كطول سنة .
فكذلك في مثل هذه الأيام التي يحتاج الناس فيها إلى الحساب بسبب توسع المدن وانتشار الأنوار
وقد اتفق الأئمة أن الحساب معتبر في الصلاة مع أنهم في رمضان لا يعتبرونه ويقولون بأنه إذا عرف وقت الصلاة إما عن طريق صناعة أو ورد مجرب فإن الإنسان لـه أن يصلي .
فتبين لنا أن الاعتماد على مثل هذه الآلات تورد الظن بدخول الوقت ، والظن بدخول الوقت هذا يجوز أن يعمل به في الشريعة ، ودليل ذلك حديث أسماء في صحيح البخاري ، فإن أسماء ذكرت أنهم أفطروا على عهد النبي عليه السلام في يوم غيم ثم طلعت الشمس.
هذا يدل على أنهم بنوا على الظن. فلو بنوا على اليقين لم تطلع الشمس لكن كون الشمس تطلع هذا يدل على أنهم ظنوا أن الشمس قد غربت ومع ذلك أفطروا ، فدل ذلك على الاعتماد على الظن في دخول الوقت وكذلك أيضاً في خروجه .
ثانياً : ما يتعلق بستر العورة . المسألة الثانية: الصلاة بالبنطال .
الصلاة بالبنطال هذا لم يكن موجوداً في الأزمنة السابقة ولهذا اختلف فيه المتأخرون .
البنطال هذا نوع من السراويل إلا أنه ضيق وسميك، يستر من السرّة إلى الكعب ، وقد يكون أنزل من الكعب . والصلاة في البنطال هذا أمر مستجد وهذا لم يكن موجوداً عند المسلمين في الأزمنة السالفة,وإنما انتقل إلى المسلمين من الغرب, وقال الألباني رحمه الله : إن هذا البنطال فيه مصيبتان :
المصيبة الأولى أن فيه تشبهاً بالكفار , و المصيبة الثانية أن فيه تحجيماً للعورة .
أما بالنسبة لما يتعلق بالتشبه بالكفار فإنه أصبح الآن في بعض البلدان الإسلامية من ألبسة المسلمين ، وأصبح منتشراً ولهذا أصبح ليس من خصائص الكفار.
والسلف كرهوا لباس البرنس ومع ذلك سئل الإمام مالك رحمه الله عن لباس البرنس فقال لا بأس به , فقالوا النصارى يلبسونه قال : يلبس هاهنا .
فدل ذلك على أن الشيء إذا انتشر بين المسلمين ولم يكن من خصائص الكفار أنه لا بأس به ما لم يكن ذلك متضمناً محظوراً شرعياً ، ككونه من الأمور والشعائر الدينية .
أما ما يتعلق بالمصيبة الثانية وهي أنه يحجم العورة بتحجيمه , فنقول: إن الفقهاء رحمهم الله يتفقون على أن الصلاة في الثوب الضيق أنها جائزة ولا بأس بها هذا من حيث الصلاة بخلاف اللُّبس هذا كثير من العلماء يكرهون ذلك ، وإن كان يؤدي إلى فتنة فإن هذا محرم ولا يجوز .
والدليل على أن لبس الثوب الضيق أنه جائز حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الثوب "إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به" أخرجه الشيخان.
والبخاري بوّب : باب الصلاة في الثوب الضيق .
وعلى هذا نقول من صلى في هذا البنطال فإن صلاته صحيحة وجائزة ، لكن لبس هذا البنطال الضيق أقل أحواله الكراهة ، لأن العلماء رحمهم الله كرهوا ذلك .لكن من ابتلي بهذا البنطال كمن اعتاد لبسه أو مثل أصحاب الوظائف المهنية نقول بأنه يجتهد بأن يوسع هذا البنطال ولا يجعله يصف العورة ويحجمها .
ثالثاً : المسائل المتعلقة بالآذان : المسألة الثالثة : الآذان عن طريق المسجل .
هل هذا يكون عبادة يكتفى به عن فرض الكفاية وأيضاً هل نقول بمتابعته إذا سمعناه ؟ أو نقول بأنه ليس عبادة وليس مشروعاً ؟
نقول هذا الآذان الذي يكون عن طريق المسجل هذا ليس مشروعاً ، والدليل على ذلك :
أن العبادات توقيفية . والله يقول : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } الشورى21 .ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } القصص65. ثم أن الآذان عبادة يحتاج إلى نية لحديث " إنما الأعمال بالنيات " متفق عليه , ومثل ذلك لا يحصل من هذا المسجل .
وكذلك أيضاً ما ذكره بعض العلماء المتأخرين أن الاعتماد على مثل هذا المسجل يفوت كثيراً من سنن المؤذن وآدابه وأحكامه ، لأن المؤذن له سنن وله آداب وله شروط , فمن السنن :الالتفات يميناً وشمالاً و الطهارة واستقبال القبلة..إلخ فلا توجد هذه الأشياء في هذا المسجل , ومن شروط الآذان أن يكون الآذان من مسلم ذكر عاقل وهذا لا ينطبق على المسجل .
ولهذه الأمور التي ذكرت فالآذان من هذا المسجل غير صحيح ولا يُكتفى به في فرض الكفاية ولا يكتفى به في المشروعية إذا كان هناك من يؤذن وسقط فرض الكفاية ولا تترب عليه أحكام الآذان من إجابة المؤذن إلى آخره .
المسألة الرابعة : هل يشرع متابعة المؤذن الذي يؤذن عن طريق الآلات مثل المذياع..
إذا نقل الآذان عن طريق المذياع فهل لـه حكم الآذان من حيث أنه يتابع إذا سمعناه أو أنه لا يأخذ حكم الآذان فلا نتابعه فمثلاً إنسان فتح المذياع وسمع أنه يؤذن في البلد الفلاني فهل يتابع هذا المؤذن وهل يقول أذكار الآذان والدعاء ؟ أو نقول بأنه لا يتابع هذا الآذان.
فنقول: إن كان منقولاً نقلاً مباشراً ، فهذا يتابع ، ودليل ذلك عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن "متفق عليه.وهذا يشمل ما إذا أذن في بلد الإنسان أو أذن في بلد آخر .أما إذا كان الآذان تسجيلاً لا مباشرا كما تقدم فلا تشرع إجابته. والله تعالى أعلى وأعلم . ولنا لقاء في العدد القادم إن شاء الله