رابعا: دلالة النهي (موجبه ومقتضاه): اتفق الأصوليون على أن صيغة النهى "لا تفعل" ليست حقيقـة في كـل المعاني، بل في البعض وهو إما التحريم أو الكراهة, أو أنها مشـترك لفظي بينهما, أو للقدر المشترك؛ أو يقال بالتوقف. كما اتفقوا على أن صيغة النهى إذا صاحبتها قرينة فإنها تستعمل فيما تدل عليه هذه القرينة. واختلفوا فيما تفيده هذه الصيغة عند تجـردها عن القرينة. هل تكون حقيقة في معنى من هذه المعاني, أو في أكثر من معنى, على خمسة مذاهب( ). الأول: أن صيغة النهى حقيقة في التحريم مجـاز فيما عداه, إذا تجردت عن القرينة، وهو مذهب جمهور العلماء، منهم الأئمة الأربعة والشيرازي والجويني والرازي والبيضاوي( ). الثاني: أن صــيغة النهى حقيقة في الكـراهة مجاز فيما عداها. نقله أبو الخطاب عن قوم ( ). الثالث: أن صيغة النهى تستعمل في القدر المشترك بين التحـريم والكراهة, وهو طلب ترك الفعـل، فتكون مشتركا معنـويا, وهذا ذكره أمير باد شاه( ) . الرابع: أن صيغة النهى مشـترك لفظـى بين التحـريم والكـراهة, فالصيغة موضوعة لكل منها بوضع مستقل، وهذا ذكـره الزركـشي ولم ينسبه لأحد ( ) . الخامس: التوقف وعدم الجزم بشيء؛ لتعـارض الأدلة، وقـد نسبـ إلى الأشعرية ( ). الأدلـــــــــــــة: أولا: استدل جمهور العلماء القائلون بأن صيغة النهى حقيقة في التحريم مجاز فيما عداه إذا وردت مجردة عن القرائن بما يلي: الأول: قوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (الحشر: 7). وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بالانتهاء عن المنهي عنه، فيكون الانتهاء واجبا؛ لأن الأمر للوجوب، وإذا كان الانتهاء عن المنهي عنه واجـبا كان فعـله محرما, فيكون النهى للتحريم، وهو المطلوب . الثاني: قوله : "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه", والقول فيه كالقول في الآية الكريمة السابقة. الثالث: أن الصـحابة والتابعـين رضي الله عنهم أجمعين كانوا يسـتدلون على التحريم بصيغة النهى مجردة عن القرائن، فيـقولون: إن القتل حـرام؛ لقوله تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حـرم الله إلا بالحق (الإسراء: 33)، والزنا حــرام؛ لقــوله تعالى: ولا تقربوا الزنا (الإسراء: 32), واستدلالـهم على التحريم بمجرد صيغة النهى يدل على أنها حقيقة في التحريم فإذا استعملت في غيره كان على سبيل المجاز، وهو ما ندعيه( ). الرابع: أن المتبادر إلى العقل إنما هو فهم الترك حتما من الصيغة المجردة عن القرينة، فلو قال السيد لعبده: لا تفعل كذا فخالف استحق ذلك العبد التوبيخ والذم والعقوبة؛ فدل على أن صـيغة النهى عند إطلاقها تفيد التحريم( ). ثانيا: استدل القائلون بأن صيغة النهى المجردة حقيقة في الكراهة: قالوا: إن التحريم هو طلب الترك مع المنع من الفعل, والكراهة طلب الترك مع عدم المنع من الفعل, وعدم المنع من الفعل هو الأصل؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحـة, فاستعمال صيغة النهى في الكراهة استعمال لها في الأصل، وعلى هذا تكون صيغة النهى حـقيقة في الكراهة مجازا فيما عداها من المعاني. أجيب عنهم: بأنا لا نسلم لكم أن الأصل في الأشياء الإباحـة؛ لأنها قاعدة مختلف فيها، وإذا سلمنا، فإن محلها إذا لم يوجد دليل، أما إذا قام دليل فلا محل للاستدلال بها. ثالثا: استدل القائلون بأن صيـغة النهـى مشترك لفظي بين التحريم والكراهة: قالوا: إن صيغة النهى قد وضعت لكل من التحريم والكراهة بوضع مستقل, واستعملت فيهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة, وبذلك تكون صيغة النهى مشتركا لفظيا بينهما, فلا تدل على أحدهما إلا بقرينة، وإلا كان ترجيحا بلا مرجح. أجيب عنهم: بأن الاشـتراك اللفظي إنما يتأتى إذا كانت صيغة النهى مترددة بين التحريم والكراهة، وهذا ليس بحاصل؛ لأنه قد وجـد المرجح لمعنى التحريم، وهو التبادر إلى الذهن، فإن صيغة النهى عند الإطلاق يتبادر منها التحريم ( ). رابعا: استدل القائلون بالتوقف: قالوا: إن الأدلة التي تثبت أن صيغة النهى للتحريم قد تعارضت مع الأدلة التي تثبت أن صيغة النهى للكراهة، ولا مرجح لأحدها على الآخر، فوجب التوقف دفعا للتحكم والترجيح من غير مرجح. أجيب عنهم: بأن القـول بالتوقـف جائز إذا لم يمكن ترجيح أحد الأدلة على الآخر، وهنا قد ترجحت الأدلة المثبتة للتحريم على الأدلة المثبتة للكراهة, فوجب المصير إليها. والراجح: هو مذهب الجمهور القائل بأن صيغة النهى حقيقة في التحـريم مجاز فيما عداه؛ لقوة أدلتهم، والله أعلم . هذا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين. ********